كتب قاسم الشاغوري في جريدة العروبة يوم الاثنين 16 تموز 1979 العدد 4512 تحت عنوان "فرَ من حكم الإعدام بدمشق و أعدم في بلده حمص":
هو شاب من خيرة شباب حمص، لم يتجاوز سنه الثامنة عشرة و كان خيالا ماهرا، و فارسا لا يشق له غبار، فعندما يمتطي فرسه (المفكيه) و يخطر في شوارع حمص و طرقاتها كان يلفت أنظار المارة فيقف الجميع للتفرج عليه و على فرسه الجميلة، و شبابه الحلو!
كان الناس يتسابقون في أيام الجمع إلى ظاهر المدينة، حيث تقام ألعاب الفروسية، الجريد، فيصطفون حول حلقة السباق لمشاهدته و هو يقوم بألعاب تثير الأنظار حيث تفوق كل خيال مشترك في الألعاب المختلفة التي كانت تجري تجري الفرسان على ظهور خيولهم.
و الخلاصة، كان زين الشباب، لا في حيه وحده، بل في بلده كلها، و محط إعجاب الذين كانوا يعرفونه و يعرفون طيب عنصره و هدوء أخلاقه و تهذيبه، و اهتمامه بفرسه التي كانت تأخذ معظم وقته في تمرينها و الاشراف على نظافتها.
و ذات يوم، تقدم بطلب انتساب إلى فرقة الخيالة في مرتبات الدرك فقبل فورا و أفرز إلى منطقة النبك – مرتب الفريان.
و أخذ بحكم وظيفته يتنقل من مخفر إلى مخفر حتى حطت رحاله في مرتبات محافظة مدينة دمشق. حيث ظل فيها مقيما حتى عام 1925 عام إعلان الثورة في جبل العرب ثم أعقبتها ثورة دمشق و كان قريبا من منطقة الشاغور موضع نشاط الشهيد المجاهد حسن الخراط (رحمه الله). فشاهد اندفاع المواطنين في الانخراط بالثورة، و متابعة المواطنين لأخبارها فمسَت نفسه هذه المشاهدات فأخذ يبكي على حاله – المواطنين نادوا، و مدافع الفرنسيين تضرب دمشق و السجون و الثكنات تغص بالمعتقلين الذين يلاقون أبشع أنواع التعذيب و التنكيل، و هو هو يخدم الدولة التي تحارب شعبه و تحكم بلده – و أخذ يفكر .. و يفكر .. أيهرب، و يلحق بالثوار و كيف يلتحق بالثوار و هم لا يعرفونه.
فربما أساءوا الظن به و حسبوه عينا عليهم، فيسرعون بالقضاء عليه، و وجد أن لا بد من الاتصال بالخراط، زعيم الحي الذي يعمل فيه.
و خدمته الظروف فتوصل إلى مقابلة البطل حسن الخراط، و تم الاتفاق معه على بقائه في وظيفته و تزويد الثوار بما يستطيع الحصول عله من أخبار السلطتين الفرنسية و المحلية و تحركاتهم .. و رأى في ذلك عملا جيدا و خدمة صحيحة و إراحة لضميره و إرضاء لوجدانه، و بذلك يكون قد ساهم مساهمة مفيدة في معاونة الثورة.
و عين له الشهيد حسن الخراط بعض الأشخاص من حي الشاغور ليكونوا همزة الوصل بينه و بين الثورة. فراح يتصل بهم و يخبرهم بما يستطيع معرفته عن تحركات الدرك و أخبار السلطة. و استمر العمل جيدا مدة لا بأس بها حتى عرف أحد الجواسيس بسلوك صاحبنا فأخبر مرجعه بالأمر. و ألقي القبض عليه، و سيق إلى قيادة الدرك الفرنسي للتحقيق و إحالته إلى المحكمة العسكربة.
و في الليل قرع باب غرفته المغلقة فجاءه الحارس و سأله عما يريد فقال أنه في حاجة إلى قضاء حاجته، ففتح الحارس له باب الغرفة و قاده إلى المرحاض، و وقف خلف الباب بانتظاره. و تشاء الصدف أن يجد صاحبنا نافذة المرحاض مفتوحة و هي تطل على الشارع، فصعد إليها و رمى بنفسه إلى الشارع الذي كان خاليا من الناس بسبب منع التجول، و تنقل من زقاق إلى زقاق، و من حارة إلى حارة حتى وصل حي الأكراد، ومنه تسرب إلى الغوطة، فسار بين بساتينها مختفيا نهارا و متنقلا ليلا، حتى شاهد جماعة يدل مظهرهم على أنهم من الثوار فناداهم فوقفوا له، و جاء إليهم فألقى السلام، و عرفه أحدهم و هو من عصبة الشهيد حسن الخراط، فهجم عليه يعانقه و يضمه إلى صدره، و التفت إلى رفاقه فقص عليهم قصته فأقبل عليه الجميع يعانقونه و يرحبون به.
أما حارسه الذي أدخله المرحاض فقد صبر كثيرا، ثم قرع الباب، و لما لم يجبه أحد خلع الباب فوجد النافذة مفتوحة و السجين غير موجود لإاسرع و أخبر ضابطه بالأمر، و بعد إطلاع الضابط على كيفية هروب السجين، أحال أوراقه إلى المحكمة العسكرية، فأصدرت حكمها عليه بالإعدام، و أذيع النبأ و وضعت جائزة مالية لمن يدل عليه.
و تنقل السجين الفار و الدركي السابق مع رفاقه الثوار، إذ أصبح واحدا منهم، فخاض عدة معارك في الغوطةكان فيها مثار الإعجاب و الشهادة بأنه مقدام و جريْ لا يهاب الموت مما جعله موضع احترام و محبة الجميع.
و لما أعلنت الثورة في مدينة حمص و انتشرت أخبار ما يقوم ثوار حمص من حركات قوية، ثم انتقالهم إلى القلمون حيث انضموا إلى قيادة الشهيد سعيد العاص، استأذن رفاقه و قيادته في الغوطة و سافر إلى القلمون للالتحاق برفاقه و أبناء بلده. و في القلمون اشترك بعدة مواقع أعطته سمعة لا بأس بها ثم عاد مع رفاقه إلى حمص لمتابعة القتال.
ثم قامت الثورة في الهرمل بزعامة "الزين مرعي جعفر" فطلب الشهيد سعيد العاص من ثوار حمص الالتحاق بثورة الهرمل لمعاونة الحعافرة في ثورتهم، فسار مع رفاقه باتجاه الهرمل. و في الطريق اصطدموا مع بعض المتعاونين، حيث احتالوا على بعض الثوار و دعوهم إلى القرية، ثم أخبروا الفرنسيين الذين جاءوا و ألقوا القبض عليهم و كانوا عشرة أشخاص.
و قد حاول بعض سكان القرية إخفاء شهيدنا محمد علي الدروبي و الشهيد علاء الدين الكيلاني و لكن صاحب القرية أقنعهم بتسليم الجميع .. و بذلك فقد سيق مع إخوانه إلى موقع "قاموع عليان" غربي المدينة حيث أعدم أربعة منهم و هم نظير النشيواتي و سعيد الشهلة و حسين جراد و عبد الكريم عاصي.
و سيق بقية الرفاق و معهم شهيدنا الذي نتحدث عنه إلى حمص إلى الثكنة العسكرية حيث بدأ التنكيل بهم و التعذيب و قد جيء بنساء الضباط و الشموع بأيديهن فأخذن يحرقن شعورهم بشموعهن!. و قام الضباط بجلدهم بالسياط و ضربهم بأعقاب البنادق و صب الماء البارد عليهم و البول في أفواههم و النساء يتفرجن و يضحكن و يتمتيلن على بعضهن!.
و في مساء اليوم الرابع أركيوهم سيارة عسكرية و أخذوهم إلى مكان خال لإعدامهم و بواسطة حارس مراكشي تمكن عبد الله المغربي و عبد الحميد النابلسي من الهرب فأطلقعليهما أحد الجنود الرصاص فأصاب عبد الله المغربي بيده لكنه تمكن هو و رفيقه من الهرب فوصلا إلى بييت السيد جميل النشيواتي حيث شاهدا رفيقهما نظير النشيواتي الذي أطلق عليه الرصاص أمامهما بين يدي الطبيبين عبد اللطيف البيسار من طرابلس و سليم محيش يضمدان جراحه!.
أما شهيدنا محمد علي الدروبي الدركي السابق فقد تم إعدامه مع رفاقه بالجانب الجنوبي الغربي من قلعة حمص.
ملاحظة:
بعد عودة الشهيد من الغوطة إلى حمص و التحاقه بأخوانه الثوار استدعاه والده رحمه الله و قال له: لقد هيأت لك السفر إلى مصر و تدبرت لك مبلغا من المال يساعدك على عمل تجاري هناك يدر عليك الربح الكثير. فقال لوالده: إنني هنا أجني أرباحا أكثر من أرباحي في مصر. فقال الوالد: و ماهي تلك الأرباح و أنت مع الثوار و يخشى القضاء عليك إما في السجن أو في الموت؟. و هجم على يد والده يقبلها و يقول: إذا انتصرت الثورة و خرجت فرنسا من البلاد و أصبحنا ننعم بالاستقلال فذلك ربح لا يعادله مال الدنيا و إذا قضي علي و كسبت الشهادة فذلك ربح لا يعادله ملك الدنيا. و بكى الوالد و بكى الولد .. و كان شهيدنا بعد عدة أيام من ذلك الحديث يتلقى رصاص الاستعمار في رأسه و هو مغتبط بالشهادة التي نقلته إلى مرافقة الشهداء الأبرار.